تقدمة : كلمة لها معنى لاهوتى ولها معنى روحى إيضاً ، فنحن نقدم ذبيحة لله والله يقدم ذبيحة عن الإنسان ، ويتلاقى الاثنان معاً فى طقس القداس . فنحن نقدم ذبيحة شكر ، والله يقدم ذبيحة خلاص .
ذبيحتنا هى تعبير عن الشكر ، فنحن نأخذ من ثمر الأرض ( الحنطة ، الخمر ) ونقدمهم ذبيحة على المذبح ، وكأننا نقول " من يدك أعطيناك " ونحن نعبر عن ذلك فى أوشية القرابين إذ نقول " نقدم قرابينك من الذى لك " فهى عطاياك يارب ونحن نقدمها لك . لذلك استخدمت الكنيسة تعبير تقدمة ، وهو لفظ يونانى ( إبروسفورا ) ومنه إبروسفارين .. الفعل من إبروسفورا ومعناه قدموا .
والشماس يقول إبروسفارين ... إبروسفارين أى قدموا قدموا ، وذلك لأنه فى الكنيسة الولى ( القرون الأولى ) ، كان كل من يأتى إلى الكنيسة ، يأتى ومعه تقدمته ويقدمها حينما يقول الشماس إبروسفارين .. أى قدموا .. قدموا عطاياكم .
كان القمح والخمر يوضعان فى الهيكل ، والباقى فى مخزن الكنيسة للصرف على استخداماتها واحتياجات الفقراء . فكل من يصلى فى الكنيسة يجب أن يقدم تقدمة ( إبروسفورا ) .
ولكن التقدمة التى يجب تقديمها فعلاً هى القلب ، فتقدمة القرابين ترفع الذهن إلى أن القلب لابد أن يُقدم لله .
فنحن نقدم " إبروسفورا " ( التقدمة ) بطريقة " الأنافورا " ( الصعيدة المقدسة ) ، والصورة الحسية الخاصة بهذه التقدمة هى القربانة والأباركة ، أما الصورة القلبية العميقة ، المعنوية هى تقديم الحياة ، تقدمة حب لله .
فالكاهن يغسل يديه قبل تقديم القرابين ، وهو يقول أثناء غسيل يديه " أغسلنى كثيراً فأبيض أكثر من الثلج " ( مز 51: 7) " أغسل يدى بالنقاوة فأطوف بمذبحك يارب " ( مز 26 : 6) ، وكأنه يريد أن يقول إنه لا يستطيع أن يقدم تقدمة لله دون ان يكون طاهراً .
بالطبع ليس المقصود هو إغتسال الكاهن ، بقدر أن يكون الذهن نفسه منتبهاً أن هذه التقدمة يجب أن تقدم بطهارة القلب وطهارة اليد إيضاً ، فإذا كان القلب ملوث بالخطية تكون التقدمة مرفوضة أمام الله ، والكتاب يقول " ذبيحة الأشرار مكرهة أمام الرب " ( ام 15 :
فكم بالحرى إذا قدمت بغش .
وقانون الكنيسة قديماً كان يمنع قبول قرابين الهراطقة والأشرار ، ولكن لصعوبة التمييز الأن فهذا لا يحدث .. ولكن الله لا يقبل ذبيحة فيها غش .
تقدمة القرابين فى القداس تحمل هذه المعانى الجميلة ، فقبل تقديم ذبيحة الإفخارستيا نقدم قلباً مستعداً ، الكاهن يغسل يديه ويرتدى الكاهن والشمامسة الملابس البيضاء ( التونيه )
إشارة للنقاوة ، وهذه الملابس كانت تصنع قديماً من الكتان ، وهو القماش الذى يكفن به الموتى ، إشارة للموت عن العالم فلا يمكن تقديم الذبيحة لله إلا إذا كنا مغتسلين ، وقلوبنا طاهرة ونقية وبيضاء مثل التونية .
ومن ضمن الاستعدادات أيضاً فرش المذبح أى تهيئة المائدة الخاصة بالعريس السماوى كى تليق بالمسيح وبالرجوع إلى المعنى الروحى . كم يكون القلب الذى يقدم هذه الذبائح ، فالله لا تهمه اللفائف بقدر ما يهمه الإنسان نفسه .
كل هذا الطقس الجميل المرتبط بتقدمة الحمل يحرك القلب كى يكون مستعداً للصلاة والتناول فالكاهن يقول فى صلاة الاستعداد التى يصليها شراً .. " أيها الرب العارف قلب كل أحد ، القدوس المستريح فى قديسيه ، الذى بلا خطيه وحده ، القادر على مغفرة الخطايا ، أنت ياسيد تعلم أنى غير مستحق ولا مستعد ولا مستوجب لهذه الخدمة المقدسة التى لك ، وليس لى وجه أن أقترب وأفتح فمى أمام مجدك المقدس ، بل بكثرة رأفتك أغفر لى أنا الخاطئ ، وأمنحنى أن أجد نعمة ورحمة فى هذه الساعة ، وأرسل لى قوة من العلاء ، لكى أبتدئ وأهيئ وأكمل خدمتك المقدسة كما يرضيك ، كمسرة أبيك رائحة بخور على الأبد " .
نلاحظ هنا ان الكاهن يقدم توبة وقلباً مستعدا ، وإحساسا بعدم الاستحقاق والتذلل أمام الله ، كى ما يعطيه الله الأهلية والأحقية أن يخدم القداس ، فالكاهن قبل أن يقدم الحمل يجب أن يقدم قلبه .
الشعب كذلك فهو يقول أثناء التقدمة " يا رب أرحم " كل الشعب يقدمون قلوبهم بكلمة يا رب أرحم ...
والكاهن أثناء التقدمة ينتقى أفضل القربان المقدم ، وصانع القربان كذلك يكون حريصا جدا ودقيقاً أثناء عمل القربان ، لذلك حسن قلبك وأنت واقف أمام الله ، كن حريصاً ومستعداً ومهيأ القلب كى يختاره المسيح ذبيحة مقبولة ومرضية .
فلنتخيل أن الكاهن وهو ينتقى القربان لم يجد قربانة مناسبة ... ولنتخيل نفس الموقف مع قلوبنا ، لذلك فتقدمة الحمل درس لكل الشعب أن يكون مستعداً ومهيئاً ليكون مقبولاً أمام المسيح .
والقربانة التى تقدم هى نموذج للكنيسة فهى عبارة عن مجموعة كبيرة من حبات القمح ، وكل حبة تشير لكل إنسان مسيحى . فالكنيسة تجمعت معاً وكل واحد ممثل بحبة القمح ( الحنطة ) ، ثم تطحن وعملية الطحن هذه ترمز للألم الذى نجتازه فى الحياة الروحية الألم فى النسكيات والصلاة والوقوف أمام الله ، وكذلك الأضطهاد " طوبى لكم إذا طردوكم وعيروكم " ( مت 5: 11)
لذلك نلاحظ أن أقوى الكنائس هى التى جازت الألم والاضطهاد ، وهذا ليس غريباً ، لأنه إن كان رأس الكنيسة إلهاً مصلوباً ، فلابد أن يكون الجسد كذلك ، وإذا تنازلت عن ذلك فلن تكون كنيسة المسيح ، فلاصليب ملازم للكنيسة ، لذلك لابد أن تطحن حبات القمح وتصير دقيقاً ناعماً .
فبدون الطحن كل حبة مستقلة وغير متحدة بغيرها ، ولكن مع الطحن يصعب التمييز بينها ، فتتحول الكنيسة من أفراد متفرقين إلى جسد واحد .
ولكن الدقيق لم يصر بعد جسداً ( كيانا ) واحداً ، فما أسهل أن يتطاير متفرقاً ، لذلك يجمعه الماء الذى يرمز للروح القدس ، الماء يوحد الكنيسة ، فكما أن الروح واحد فهو يجعل الكنيسة واحدة ، فيصير الدقيق بذلك عجيناً ، وهنا لا يمكن التمييز ولا يمكن أن يتحول العجين إلى دقيق أو قمح مرة أخرى .
أى أن الكنيسة لا يمكن أن تنحل ، فلا توجد حبة قمح دخلت الطاحونة وتعود مرة أخرى إلى طبيعتها الأولى فطبيعة الكنيسة تبدأ ولا تنتهى ، تبدأ من الانعزالية إلى الاتحاد وتصير هذه هى طبيعة الكنيسة .
المنعزل لم يدخل بعد فى الألم والنسك والحياة الكنسية ، لذلك فهو فرح بذاته .
يخلط بعد ذلك العجين بالخميرة ، وهى ترمز للشر ، ففى العهد القديم كانوا يحتفلون بعيد الفطير وهو خبز بدون خميرة لأنها ترمز للشر وقد شرح معلمنا الرسول موضوع الفطير ..
لماذا إذا توضع فى القربان وهى رمز للشر ؟ ! " هوذا حمل الله الذى يحمل خطية العالم " ( يو1: 29)
فخطية العالم وضعت على الحمل كى يرفعها عنا .
وتوضع القربانة بعد ذلك فى النار ، ونتيجة النار تذبل الخطية وتموت فالعجين يكبر وينتفخ لأنه يختمر ، أما فى النار لا يحدث هذا ، فالنار تبطل فعل الخميرة ، فهى تموت لأنها كائن حى ( فطر )
المسيح حمل خطايانا بجسده وصعد بها إلى الصليب ، ليميت الخطية ، والقربانة فعلا فيها خميرة ولكنها خميرة ميتة ، الكنيسة فيها خطية ولكنها ميتة ، الكنيسة معصومة من الخطأ ولكن أعضائها يخطئون ، فلا يستطيع أحد أن يدعى أننا ونحن على الأرض معصومين من الخطأ .
والقربانة لا يوضع فيها ملح ، لأن المسيح قال " أنتم ملح الرض " فالكنيسة ملح العالم كله ولكن " إذا فسد الملح فبماذا يملح لا يصلح بعد لشئ إلا أن يطرح خارجاً ويداس من الناس " ( مت 5: 13)
ولا يدخل الهيكل إلا قربانة واحدة ويوضع الباقى خارج الهيكل ، سواء قبل القداس أو بعده فالقربانة التى دخلت الهيكل ترمز للمسيح ، والذى دخل الأقداس العليا هو المسيح فقط . لا توضع على المذبح غير قربانة واحدة هى المسيح ، فهى مختارة من عدة قرابين قدمت أمام الهيكل ، لذلك يوضع الباقى خارجاً ولا يدخل غير المسيح الحمل .
أما بالنسبة لعدد القربان المقدم فهو لابد أن يكون عدداً فردياً ، ومعظم الكتب تفسر ذلك على أن عدد ثلاثة يرمز للثالوث ، وعدد خمسة يرمز لذبائح العهد القديم والعدد سبعة يرمز لأسرار الكنيسة السبعة أو لذبائح العهد القديم مضافاً إليهم العصفورين ، ولكن ماذا عن التسعة والأحد عشر والثلاثة عشر و .... ؟
مع قبولنا لهذا التفسير ، ولكن ... إن كان الثلاثة يرمزون للثالوث ، فنحن ننتقى واحدة ، والقربانة ترمز للجسد فإذا كان للابن جسد فهل للآب والروح القدس جسداً ، ولكن الثلاثة رمزاً للثالوث فهو رمز ناحية العدد فقط .
كما أن الآب والابن والروح القدس ثلاثة أقانيم متمايزة ، وليست منفصلة ، والقربان منفصل .
كما أن ذلك قد يعنى أن عملية الصلب مثلاً كانت يمكن أن تأتى من نصيب الآب أو الروح القدس ، ولكن القرعة كانت من حظ الابن ، بينما المشورة الأزلية هى أن الابن خاص بالتجسد والفداء .
أيضا ذبائح العهد القديم ، سواء المحرقة أو التقدمة أو ذيحة السلامة أو ... فأيهم أخذناها لنضعها على المذبح ، فالمسيح مجموعة فيه كل هذه الذبائح .
كذلك الأسرار السبعة ما هى علاقتها بالقربانة ؟!! فهل نضع المعمودية مثلا على المذبح ؟!
نخلص من ذلك أن العدد الفردى يرمز للمسيح ، المسيح كفرد ، وما عداه فهم تلاميذه ، فالمسيح كان يرسلهم " أثنين أثنين " كما أن جسد بطرس مثل جسد إندراوس مثل جسد المسيح ، والذى يوضع على المذبح هو المسيح نفسه لماذا إذا لا نضع 13 قربانة دوماً ؟!!!
هذا شئ مرتبط بعدد الشعب ، فإذا زاد الشعب يزيد القربان اثنين فهو يوزع لقمة بركة على الشعب بعد نهاية القداس ، أما إذا كان الحاضرين قليلين فالعدد اثنين يكفى ..
وزيادة القربان الموزع على اثنين له معنى ، فهذا يعنى أن هناك من إفتقدوا الشعب والذين افتقدوهم هم الخدام ( الآباء الرسل ) ، ومكافأة لهولاء الخدام هى وضع قربانة بجوار المسيح كى يكون بركة لكل الشعب ، فكل خادم يتعب ويرهق نفسه فى الخدمة تمجده الكنيسة وتكرمه إذ تضعه بجوار المسيح فى صورة اثنين اثنين الذين أرسلهم المسيح . ولكن مهما زاد عدد القربان فهناك فى الوسط قربانة واحدة متميزة هى المسيح ، ولا يمكن أن يكون هناك أفضل منها ، فهو " معلن بين ربوة "
وبعد أن يختار الكاهن القربانة يرشمها بالأباركة ، ويرشم بعدها بقية القربان ولكنه يبدأ بالقربانة المختارة للحمل ويختم بها أيضا " أنا هو البداية والنهاية " ... " أنا هو اللف والياء " (رؤ1:
ويوضع بقية القربان خارج الهيكل ، فلم يدخل للأقداس العلياء إلا المسيح ، أما القديسين فهم فى الفردوس .
ويرشمها الكاهن بالأباركة على اعتبار أن الأباركة ستكون هى الدم " هذا الجسد لهذا الدم وهذا الدم لهذا الجسد " وبعد ذلك يمسح القربانة المختارة بالماء ، ويعتبرها البعض رمزاً للمعمودية ، وبالطبع فإن أى حركة طقسية لابد أن يكون لها معناها اللاهوتى والذى ينطبق على حياة المسيح لذلك قيل عنها إنها رمزاً للمعمودية ، أما الهدف فهو تنقية القربانة من الشوائب .
بعد ذلك يلفها الكاهن باللفافة ، وقيل أنها ترمز لتقميط الطفل يسوع ، أو تكفين المسيح ، ولكن أيهما أولاً؟!!
ذلك لا يهم لأن المسيح حاضر على المذبح بكل حياته فالصينية يمكن أن نعتبرها المزود لذلك ما يوضع فوق الصينية يسمى النجم ، أو يمكن اعتبارها القبر ، لذلك يعتبر الأبروسفارين هو الحجر الذى وضع فوق القبر ، واللفافة المثلثة هى الختم وأياً كان فهو المسيح القائم .
وفى أخر القداس يوزع القربان على الشعب وهو يسمى " أولوجيا " أى بركة ، وكى يوزع لابد أن يقطع ، أنت أيضاً لابد أن تقطع ، فقربان التقدمة له كرامة خاصة .